Tulisan Syeikh Hamid al-Hamid.
يدور الحديث عن المقارنة بين المنهجين عند علماء الحديث، فهم يرون أن المنهج الذي اتبعه أئمة الجرح والتعديل كأحمد بن حنبل وابن معين وابن المديني والبخاري والدارقطني وغيرهم، والذي سلكه ابن تيمية والذهبي وابن عبد الهادي وابن رجب يعتمد على الجانب التطبيقي والاستقراء لأحوال المتون والرجال، ودراسة كل حديث بمفرده بحسب ما يحتف به من قرائن وأحوال، بعكس منهج المتأخرين الذي طرقه الخطيب البغدادي في كتابه (الكفاية) وما بُني عليه من مؤلفات، والذي يعتمد أولاً على الجانب النظري، ويقوم بطرد نظرياته على الأحاديث دون النظر إلى القرائن التي تحتف بكل حديث.
وأهل الحديث المتقدمون على اختلافهم كانت طريقتهم في تعليل الأحاديث والرجال بناء على الاستقراء لتشبعهم بالروايات، وليس التصحيح والتضعيف مسألة حسابية تجعل من الثقة مع الثقة حديثاً صحيحاً.
ولك أن تقارن بين شرح ابن رجب لعلل الترمذي وتدريب الراوي للسيوطي، وفي الجانب التطبيقي بين ابن عبد الهادي وابن الجوزي في كتاب (تنقيح التحقيق).
ولهذا قد تجد من المتأخرين من يصحح حديثاً اتفق الأئمة الحفاظ على عدم صحته، كالحديث الذي رواه أبو إسحاق السبيعي عن الأسود عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب ولا يمسّ ماء).
قال ابن رجب رحمه الله: (وهذا الحديث مما اتفق أئمة الحديث من السلف على إنكاره على أبي إسحاق، منهم: إسماعيل بن أبي خالد وشعبة ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وأبو بكر ابن أبي شيبة ومسلم بن حجاج وأبو بكر الأثرم والجوزجاني والترمذي والدارقطني... .
وأما الفقهاء المتأخرون فكثير منهم نظر إلى ثقة رجاله فظن صحته! وهؤلاء يظنون أن كل حديث رواه ثقة فهو صحيح، ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث.
ووافقهم طائفة من المحدثين المتأخرين كالطحاوي والحاكم والبيهقي).
وأبو إسحاق وإن كان إماماً حافظاً روى له الجماعة إلاّ أنه جلّ من لا يخطئ.
والغريب أن يصحح الحديث المتقدم من يرد أحاديث أخرى؛ لأنها من طريق أبي إسحاق وقد عنعن أو اختلط، مع أن الحفّاظ المتقدمين لا يردّون الحديث بمجرد العنعنة، وقد كان اختلاطه يسيراً غير مؤثر، والبخاري -رحمه الله- في صحيحه أكثر من رواية إسرائيل عن جده أبي إسحاق، مع أنه روى عنه بعد اختلاطه.
وفي حديث مواقيت الصلوات الذي رواه محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً، ورواه غير ابن فضيل عن الأعمش عن مجاهد مرسلاً قال البخاري رحمه الله: (حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت أصحّ من حديث ابن فضيل عن الأعمش، وحديث ابن فضيل خطأ)، وقال ابن عبد البر: (هذا الحديث عند جميع أهل الحديث حديث منكر وهو خطأ لم يروه أحد عن الأعمش بهذا الإسناد إلاّ محمد بن فضيل، وقد أنكروه عليه).
ولكن ابن الجوزي صحّحه من طريق ابن فضيل من باب التجويز العقلي، فقال: (ابن فضيل ثقة، فيجوز أن يكون الأعمش قد سمعه من مجاهد مرسلاً، وسمعه من أبي صالح مسنداً).
وإذا أنعمت النظر فسترى بأن الأمر أوسع من علم الحديث؛ فهذان المنهجان تراهما أيضاً في علم العقيدة وأصول الفقه والفقه والنحو والبلاغة وغيرها.
فالعقيدة عند المتقدمين هي على منهج تلك الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: ({أين الله؟} قالت: في السماء قال: {من أنا؟} قالت: أنت رسول الله قال: {أعتقها فإنها مؤمنة}) وعلى منهج (الأصول الثلاثة) التي كتبها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟
فالمتقدمون كما يقول سهل التستري رحمه الله: (أهل المعرفة بالله سكتوا بعلم، وتكلموا بإذن فسقط، عنهم فضول الكلام).
وأما المادة والهيولي والمقوم والمقسم والجوهر والعرض، وهل يجوز على الله أو لا يجوز فهذا مما أفسد العقول، وانتهى بالعقلاء إلى أن يرجعوا إلى دين العجائز وهو دين الفطرة.
ومعرفة الحق واعتقاده والتصديق به (من لم يكن فيه على طريق أئمة الهدى كان ثغر قلبه مفتوحاً لأئمة الضلال... .
ومن هنا قال من قال من النفاة: (إن طريقة الخلف أعلم وأحكم وطريقة السلف أسلم)...
فلو كان قد بين وتبين لهذا وأمثاله أن طريقة السلف إنما هي إثبات ما دلت عليه النصوص من الصفات، وفهم ما دلت عليه، وتدبره وعقله، وإبطال طريقة النفاة، وبيان مخالفتها لصريح المعقول وصحيح المنقول علم أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم وأهدى إلى الطريق الأقوم). انتهى من كلام ابن تيمية رحمه الله.
وفي أصول الفقه عندما تقارن بين رسالة الشافعي وبرهان الجويني -رحمهما الله- ستجد فرقاً كبيراً، فالشافعي يبني كلامه عن طريق الاستقراء للاستدلالات، وأما الذين سلكوا منهج الباقلاني كالجويني والغزالي -رحمهم الله- جميعاً ومن أتى بعدهم فكلامهم تنظير عقلي أكثر من كونه تنظيراً واقعياً، وستجد في كتبهم بعض المسائل التي ليس تحتها أمثلة، أو لا تجد لها إلاّ مثالاً واحداً لم يجدوا غيره، وقد يقولون بأن هذا جائز عقلاً غير جائز شرعاً، مع أن ثمرة أصول الفقه لتطبيقه على علم الفقه.
والأصوليون -مثلاً- يتحدثون عن مسألة زيادة الثقة والتفريق بين ما إذا تعدد المجلس أو اتحد، وكذلك إذا كانت الزيادة مقصودة لذاتها كالدعاء أو لا، وهذا كله تنظير عقلي غير مبني على استقراء، ومثل هذه الأقوال لا تجدها عند علماء الحديث المتقدمين، وإنما تجدها عند (المتكلمين).
وربما وضع الأصوليون أنفسهم في مقام كبار أئمة الحديث، فإذا تكلموا عن مسألة من مسائل علم الحديث قالوا: فيها أقوال: القول الأول لأئمة الحديث، والقول الثاني قال به من الأصوليين (المتكلمين) فلان وفلان.
وأحدنا إذا اطلع على حديث فإنه لن يقول صحّحه الباقلاني أو الجويني أو الغزالي، وإنما يقول: صححه البخاري والترمذي والدارقطني.
والجويني وهو من أئمة الأصوليين أورد حديث معاذ بن جبل الذي يستدلون به على القياس فقال: (وهو مدون في الصحاح، وهو متفق على صحته)، مع أنه لم يصحّحه أحد من أئمة الحديث المتقدمين، وإنما ضعّفوه!
وقد انتقده ابن تيمية لأن كتابه: (الذي هو نخبة عمره (نهاية المطلب في دراية المذهب) ليس فيه حديث واحد معزو إلى صحيح البخاري إلاّ حديث واحد!).
وقد يفتخر السبكي بأن (الأصوليين دققوا في فهم أشياء من كلام العرب لم يصل إليها النحاة ولا اللغويون!)، ولكن هذا الفخر لا يتم له إذا كان اللغويون يكرهون المسائل التي ليس تحتها عمل، أو قد تكون تلك المسائل غير مندرجة تحت مسائلهم أصلاً، فالنحوي مثلاً لا يعنيه دلالة اللفظ، وإنما يعنيه كيفية النطق بحركة إعرابه.
وفي علم الفقه يظهر التنظير الأصولي أثناء الخصومات، فينزع كل طرف إلى نظرية من النظريات يجعلها (أم الكتاب) ويجعل نظريات مخالفه من المتشابهات، ولا ينظر إلى النقليات والعقليات على أنها أدلة وقرائن يفسر بعضها بعضاً، ولا يقوم بسبرها وتقسيمها لكي يضع العلل في مواضعها.
وقد انتقد ابنُ عبد الهادي ابنَ الجوزي في (تنقيح التحقيق) أكثر من مرة لتضعيفه بعض الرواة في موضع وتقويته لهم في موضع آخر إذا كان يستدل بروايتهم، كجابر الجعفي ومحمد بن إسحاق.
وحين قال ابن الجوزي مستدلاً على وجوب التكبير بعد الافتتاح والتسميع والتحميد: (لنا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد صحّ عنه أنه كان يفعل ذلك، وقد قال: {صلوا كما رأيتموني أصلي}).
تعقبه ابن عبد الهادي بقوله: (وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ويفعل في الصلاة أشياء غير واجبة مع قوله: {صلّوا كما رأيتموني أصلي}).
وكما أن علم الحديث ليس مسألة حسابية فكذلك الفقه، وما يكون المرء فقيهاً إلاّ بطول نظر في كلام الصحابة والتابعين وطريقة تفسيرهم للنصوص وتأمّل ذلك.
وكما قال البزدوي رحمه الله: (ووجوب الترتيب بقوله تعالى: (اركعوا واسجدوا) هذا حكم لا يعرف إلاّ باستقراء كلام العرب وبالتأمل في موضوع كلامهم، كالحكم الشرعي إنما يعرف من قبل اتباع الكتاب والسنة والتأمّل في أصول الشرع).
وحتى تنشأ لديك ملكة تأخذ بها دلالة الكتاب والسنة على وجهها، وتعرف بها الشريعة ومقاصدها فلا بد من إدمان النظر في أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وليكن نديمك مصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق والسنن الكبرى للبيهقي، وما سطره ابن عبد البر وابن رجب وغيرهم ممن يعتني بالآثار.
وحينئذ تعلم لماذا يحكم أئمة الحديث بنكارة المتن مع صحة الإسناد، ولماذا يصححون بعض الأحاديث، وينقلون الإجماع على عدم العمل بها، وكذلك يحكمون على أمر من أوامر الشارع بأنه لا يقتضي الوجوب بالإجماع، أو نهي من النواهي بأنه لا يقتضي التحريم بالإجماع، وهكذا غيرها من المسائل التي يبني عليها الأصوليون قواعد، ويطردونها من غير نظر لأحوال النصوص وملابساتها، إلاّ إذا خالفت منهج إمامهم!
قال ابن تيمية رحمه الله: (لا يخلو أمر الداعي من أمرين:
الأول: أن يكون مجتهداً أو مقلداً، فالمجتهد ينظر في تصانيف المتقدمين من القرون الثلاثة؛ ثم يرجح ما ينبغي ترجيحه.
الثاني: المقلد يقلد السلف؛ إذ القرون المتقدمة أفضل مما بعدها).
وفي النحو العربي ترى المتقدمين يتكلمون بناء على استقراء كلام العرب، كما روي عن الخليل بن أحمد عندما سُئل: أعن العرب أخذت هذه العلل أم اخترعتها من نفسك؟ فقال: (إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها وعرفت مواقع كلامها، وقام في عقولها علله وإن لم ينقل ذلك عنها، واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه، فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمست)، وسيبويه لم يكن لديه من العوامل المعنوية إلاّ الابتداء.
وأما المتأخرون فغلب عليهم الجانب الفلسفي والإفراط في العوامل وإيجاد التمارين غير العملية وكثرة التعليلات، كقولهم مثلاً في علة بناء اسم الإشارة، حيث إنه بني للشبه المعنوي بحرف الإشارة الذي كان من المفترض أن تضعه العرب، ولكنها لم تضعه!
وفي مثل قول النحويين المتأخرين -كما نقل السيوطي في همع الهوامع-: (زيد هند الأخوان الزيدون ضاربوهما عندها بإذنه، والمعنى: الزيدون ضاربو الأخوين عند هند بإذن زيد، قال أبو حيان: وهذا المثال ونحوه مما وضعه النحويون للاختبار والتمرين، ولا يوجد مثله في كلام العرب البتة).
وأبو حيان الأندلسي انتقد النحويين المتأخرين ودعاهم (مراراً وتكراراً إلى إلغاء ما يتعلق به النحاة من كثرة التعليل للظواهر اللغوية والنحوية، وجلب التمارين غير العملية). كما يقول شوقي ضيف -رحمه الله- وهذا مثل الأصل في الإعراب هل هو الأسماء أو الأفعال؟ وكذلك امتناع الجر من الاسم، وامتناع الجزم من الفعل، ولحوق تاء التأنيث الساكنة للماضي دون المضارع والأمر، ونحو ذلك.
وإفراط المتأخرين بالعوامل وانشغالهم بالتمارين التي لا تنطق بمثلها العرب، ونحو هذه الأشياء هو الذي جعل ابن مضاء القرطبي يثور على هؤلاء النحاة في كتابه (الردّ على النحاة).
وفي البلاغة العربية تلحظ أن المتقدمين ينظرون إلى البلاغة على أنها أقوال الفصحاء وكتابات البلغاء، فيتشربونها حتى ينبت بها ريشهم، ويتضلعون منها حتى ترى آثارها في محابرهم ومحافلهم.
وإذا كان إلهام المحدثين ناشئ عن تشبع بالروايات واستحسان الفقهاء نتيجة طول نظر في المدلولات فإن الذوق حاسة بلاغية يكتسبها من أدمن النظر في المقطوعات الأدبية.
يقول الجرجاني رحمه الله: (واعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعاً من السامع، ولا يجد لديه قبولاً حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة، وحتى يكون ممن تحدثه نفسه بأن لما يومئ إليه من الحسن واللطف أصلاً، وحتى يختلف الحال عليه عند تأمل الكلام، فيجد الأريحية تارة ويعرى منها أخرى، وحتى إذا عجّبته عجب، وإذ نبّهته لموضع المزية انتبه، فأما من كانت الحالان والوجهان عنده أبداً على سواء، وكان لا يفقه من أمر النظم إلاّ الصحة المطلقة، وإلاّ إعراباً ظاهراً فما أقل ما يجدي الكلام معه).
وقال: (واعلم أن هذه الأمور التي قصدت البحث عنها أمور كأنها معروفة مجهولة! وذلك أنها معروفة على الجملة، لا ينكر قيامَها في نفوس العارفين ذوق الكلام والمتمهرين في فصل جيده من رديئه، ومجهولة من حيث لم يتفق فيها أوضاع تجري مجرى القوانين التي يرجع إليها، فتستخرج منها العلل في حسن ما استحسن وقبح ما استهجن، حتى تُعلم علم اليقين غير الموهوم، وتضبط ضبط المزموم المخطوم، ولعل الملال إن عرض لك أو النشاط إن فتر عنك قلت: ما الحاجة إلى كل هذه الإطالة؟ وإنما يكفي أن يُقال الاستعارة مثل كذا، فتعد كلمات، وتنشد أبيات، وهكذا يكفينا المؤونة في التشبيه والتمثيل يسير من القول).
وكعادة المتكلمين إذا دخلوا علماً من العلوم، فإن هذا العلم لما دخله الفخر الرازي انحرف به رتوة، وجاء بعده (متكلم) آخر وهو أبو يعقوب السكاكي في كتابه (مفتاح العلوم) فشط بهذا العلم عن سواء السبيل، وجعله جسداً بلا روح، وتكلفاً بلا ذوق ولا جمال، ثم تتابع المتأخرون على كتابه بين شارح ومختصر إلى عصرنا هذا وفي مدارسنا المعاصرة.
وبالجملة فهذه العلوم تعتمد على الجانب التطبيقي أولاً، واعتبر ذلك في قيادة السيارة فإن من يقودها يتصرف بناء على (الإلهام أو الاستحسان أو الذوق)، وأما من درس قيادة السيارة نظرياً فربما يناظر قائدها وهو لا يحسن القيادة، وقد يأتي المنظّر قائدَها بالعلل والنظريات عن القيادة، وإذا كان القائد لا يحسن التنظير فربما يعجز عن ردّ تلك النظريات مع أن القائد يعلم أن الصواب بحكم تجربته خلاف ما يقوله ذلك المنظّر.
ومثل هذا الشعر: فإن الشاعر يكون كذلك باطلاعه على أشعار العرب وحفظه لها وتذوقه لجمالها مع مساعدة القريحة، وأما العروض فإنه يخرّج ناظماً يعرف الأوزان والتفعيلات وما داخلها من زحافات.
وفي كل ما تقدم.. رحم الله الشافعي حين قال -إن صح عنه-: (ما جهل الناس ولا اختلفوا إلاّ لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس).
ورحم الله أبا سعيد السيرافي في مناظرته لمتى بن يونس بين يدي الأكابر.
وبطبيعة الحال ففضيلة منهج المتقدمين هو في العلوم الدينية واللغوية، وأما العلوم الإنسانية فمتابعة مستجداتها أفضل من الركون إلى الأقدمين؛ لأن هذه العلوم تتطور، والمسلمون مأمورون بالتزود من العلم والقوة، ونهوا عن الهوان.
No comments:
Post a Comment